الفوائد

محمد بن الشيخ علي بن آدم الإتيوبي…
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته
مرحبا بكم في الموقع الرسمي لفضيلة الشيخ العلامة …

اختلاف أهل العلم في صوم يوم السبت

منذ : 4 سنوات
| الزيارات : 1847

(المسألة السادسة): في بيان ما ورد من الأحاديث في صوم يوم السبت:
(اعلم): أنه وردت أحاديث في النهي عن صوم يوم السبت، ووردت أحاديث في إباحة صومه:
فمن الأول: ما رَوَى الإمام أحمد، وأبو داود عن عبد الله بن بُسْر السُّلَميّ، عن أخته الصماء: أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – قال: “لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افتُرِض عليكم، فإن لم يجد أحدكم إلا لِحَاء عِنَبة، أو عُود شجرة فليمضغه“.
وأحاديث الجواز كثيرة:
(منها): حديث جابر وأبي هريرة – رضي الله عنهما – المذكوران في الباب، وهما متّفق عليهما.
(ومنها): ما أخرجه البخاريّ في “صحيحه” عن جويرية بنت الحارث – رضي الله عنها -: أن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – دخل عليها يوم الجمعة، وهي صائمة، فقال: “أصمت أمس؟ ” قالت: لا، قال: “تُرِيدين أن تصومي غدًا؟ ” قالت: لا، قال: “فأفطري“.
(ومنها): ما أخرجه ابن خزيمة، وابن حبّان في “صحيحيهما” عن عبد الله بن محمد بن عمر بن عليّ، عن أبيه: أن كريبًا مولى ابن عباس أخبره، أن ابن عباس، وناسًا من أصحاب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بعثوني إلى أم سلمة أُسائلها عن أيّ الأيام كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أكثر لصيامها، فقالت: يوم السبت والأحد، فرجعت إليهم، فأخبرتهم، فكأنهم أنكروا ذلك، فقاموا بأجمعهم إليها، فقالوا: إنا بعثنا إليك هذا في كذا وكذا، وذكر أنك قلت كذا، فقالت: صدق، إن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أكثر ما كان يصوم من الأيام يوم السبت والأحد، وكان يقول: “إنهما عيدان للمشركين، وأنا أريد أن أخالفهم” (1).
وقد اختلف الناس في الجمع بين هذه الأحاديث، فقال مالك رحمه الله في حديث الصمّاء: هذا كَذِب، وقال أبو داود: هذا حديث منسوخٌ، وقال النسائيّ: هو حديث مضطربٌ.
وقال جماعة من أهل العلم: لا تعارض بين الأحاديث، فإن النهي عن صومه إنما هو إفراده، وعلى ذلك ترجم أبو داود فقال: “باب النهي أن يُخَصّ يوم السبت بالصوم”، وحديث صيامه إنما هو مع يوم الأحد، قالوا: ونظير هذا أنه نهي عن إفراد يوم الجمعة بالصوم، إلا أن يصوم يومًا قبله، أو يومًا بعده، قال ابن القيّم رحمه الله: وبهذا يزول الإشكال الذي ظنه من قال: إن صومه نوع تعظيم له فهو موافقة لأهل الكتاب في تعظيمه، وإن تضمن مخالفتهم في صومه، فإن التعظيم إنما يكون إذا أفرد بالصوم، ولا ريب أن الحديث لم يجىء بإفراده، وأما إذا صامه مع غيره لم يكن فيه تعظيم. انتهى (2).
وقال الطحاويّ رحمه الله في “شرح معاني الآثار”: ولقد أنكر الزهريّ حديث الصماء في كراهة صوم يوم السبت، ولم يعدّه من حديث أهل العلم بعد معرفته به، ثم أخرج بسنده عن الليث بن سعد قال: سئل الزهريّ عن صوم يوم السبت، فقال: لا بأس به، فقيل له: فقد روي عن النبيّ – صلى الله عليه وسلم – في كراهته، فقال: ذلك حديث حمصيّ، فلم يعدّه الزهريّ حديثًا يقال به، وضَعّفَه (3).
وقال الحافظ في “التلخيص الحبير”: حديث: “لا تصوموا يوم السبت إلا فيما افتُرِض عليكم“، رواه أحمد، وأصحاب السنن، وابن حبان، والحاكم، والطبرانيّ، والبيهقيّ، من حديث عبد الله بن بُسر، عن أخته الصماء، وصححه ابن السكن، ورَوَى الحاكم عن الزهريّ أنه كان إذا ذُكِر له الحديث قال: هذا حديثٌ حمصيّ، وعن الأوزاعيّ قال: ما زلت له كاتِمًا حتى رأيته قد اشتهر، وقال أبو داود في “السنن”: قال مالك: هذا الحديث كَذِبٌ، قال الحاكم: وله معارض بإسناد صحيح، ثم رَوَى حديث كريب المتقدّم، قال: ورواه النسائيّ، والبيهقيّ، وابن حبان، وروى الترمذيّ من حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: كان رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يصوم من الشهر: السبت، والأحد، والاثنين، ومن الشهر الآخر: الثلاثاء، والأربعاء، والخميس (4).
قال الحافظ رحمه الله: قد أُعِلّ حديث الصماء بالمعارضة المذكورة، وأُعِلّ أيضًا باضطرابه، فقيل هكذا، وقيل: عن عبد الله بن بسر، وليس فيه عن أخته لصماء، وهذه رواية ابن حبان، وليست بعلة قادحة، فإنه أيضًا صحابيّ، وقيل: عنه، عن أبيه بسر، وقيل: عنه، عن الصماء، عن عائشة، قال النسائيّ: هذا حديث مضطرب.
قال الحافظ: وَيحْتَمِل أن يكون عند عبد الله، عن أبيه، وعن أخته، وعند أخته بواسطة، وهذه طريقة مَن صححه، ورجح عبد الحقّ الرواية الأولى، وتبع في ذلك الدارقطنيّ، لكن هذا التلوّن في الحديث الواحد، بالإسناد الواحد، مع اتحاد المخرج يوهن راويه، وينبئ بقلة ضبطه، إلا أن يكون من الحفاظ المكثرين المعروفين بجمع طرق الحديث، فلا يكون ذلك دالًّا على قلة ضبطه، وليس الأمر هنا كذا، بل اختلف فيه أيضًا على الراوي، عن عبد الله بن بسر أيضًا.
وادعى أبو داود أن هذا منسوخ، ولا يتبين وجه النسخ فيه، قال: ويمكن أن يكون أخذه من كونه – صلى الله عليه وسلم – كان يحب موافقة أهل الكتاب في أول الأمر، ثم في آخر أمره قال: “خالفوهم“، فالنهي عن صوم يوم السبت يوافق الحالة الأولى، وصيامه إياه يوافق الحالة الثانية، وهذه صورة النسخ، والله أعلم. انتهى كلام الحافظ رحمه الله (5).
وذكر ابن مفلح الحنبليّ في “الفروع”: قال الأثرم: قال أبو عبد الله: قد جاء فيه حديث الصمّاء، وكان يحيى بن سعيد يتّقيه، وأبى أن يُحدّثني به، قال الأثرم: وحجة أبي عبد الله في الرخصة في صوم يوم السبت أن الأحاديث كلها مخالفة لحديث عبد الله بن بسر، منها حديث أم سلمة -يَعْنِي أَنَّ النبيّ – صلى الله عليه وسلم – كان يَصُومُ السَّبْتَ وَالْأَحَدَ، وَيَقُولُ: “هُمَا عِيدَانِ لِلْمُشْرِكِينَ، فَأَنَا أُحِبُّ أَنْ أُخَالِفَهُمَا“، رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ جَمَاعَةٌ، وَإِسْنَادُهُ جَيِّدٌ، وَاخْتَارَ شَيْخُنَا -يعني ابن تيميّة- أَنَّهُ لَا يُكْرَهُ، وَأَنَّهُ قَوْلُ أَكْثَرِ الْعُلَمَاءِ، وَأَنَّهُ الذي فَهِمَهُ الْأَثْرَمُ من روايته. انتهى (6).
قال الجامع عفا الله عنه: قد تبيّن بما سبق أن الذي يترجّح جواز صوم السبت؛ لصحّة الأحاديث بذلك، وأما حديث الصمّاء فالظاهر عدم صحّته؛ للاضطراب المذكور، كما مال إليه الحافظ في آخر كلامه، وقد أنكره الأئمة: الزهريّ، ومالك، والأوزاعيّ، ويحيى القطّان، وأحمد، وأبو داود، وغيرهم.
وعلى تقدير صحّته، فلا يَقْوَى لمعارضة أحاديث الجواز؛ إذ هي أكثر، وأقوى صحّة منه، ولا سيّما حديث جابر، وأبي هريرة المذكوران في الباب، وهما في “الصحيحين”، وحديث جويرة المتقدّم، وهو في “صحيح البخاريّ”.
أو يُحمَل النهي فيه على إفراده، كما سلكه ابن حبّان حيث ترجم بقوله: “ذكرُ العلّة التي من أجلها نُهي عن صيام يوم السبت، مع البيان بأنه إذا قُرن بيوم آخر جاز صومه” (7)، فتبصّر، والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

__________
(1) صححه ابن خزيمة (2167)، وابن حبّان (3616)، والحاكم في “المستدرك” (1/ 436)، وأقرّه الذهبيّ.
وعبد الله بن محمد بن عليّ قد روى عنه جماعة، منهم حماد بن أسامة، وابن المبارك، والدراوردي، وغيرهم، ووثقه جماعة، منهم: ابن حبّان، وقال يعقوب بن شيبة عن ابن المدينيّ: هو وسطٌ، وقال الذهبيّ في “الكاشف” (2/ 127): ثقة، فقوله في “التقريب”: “مقبول” غير مقبول، فتبصّر.

(2) “زاد المعاد” 2/ 79 – 80.
(3) “شرح معاني الآثار” 2/ 81.
(4) حديث صحيح، أخرجه الترمذيّ (746).

(5) “التلخيص الحبير” 2/ 216 – 217.
(6) راجع: “الفروع” 3/ 92.

(7) “صحيح ابن حبّان” 8/ 381.

المصدر: البحر المحيط الثجاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج

21 / 276-280 

3.3 4 تقييم
تقييم
S’abonner
Notifier de
guest
1 تعليق
le plus ancien
le plus récent le plus populaire
Inline Feedbacks
إظهار كل التعليقات
ابو عبد الشاكر بلحاج
ابو عبد الشاكر بلحاج
11 أشهر قبل

اللهم اسكن الشيخ الجنة، وانفع بعلمه الأمة.

1
0
يسرنا معرفة رأيكم، المرجو ترك تعليقx
()
x